التردد الإيراني يشجع إسرائيل- تصعيد الحرب وتغيير قواعد اللعبة

المؤلف: محمود علوش10.08.2025
التردد الإيراني يشجع إسرائيل- تصعيد الحرب وتغيير قواعد اللعبة

من الأخطاء الفادحة التي قد يقع فيها طرف منخرط في صراع لا يرغب فيه، ويسعى جاهداً لتقليل الخسائر الناجمة عنه، هو إظهار شيء من الضعف والتردد في اللحظات المصيرية، خصوصاً عندما يكون الطرف المقابل مندفعاً بكل قواه؛ ذلك لأن هذا التردد يشجعه بشكل كبير على المبالغة في استعراض قوته العسكرية، مدفوعاً باعتقاده الراسخ بأن التكاليف المترتبة على أفعاله ستكون محدودة التأثير عليه.

هذه الحالة الراهنة تنسحب بشكل واضح على المواجهة المحتدمة بين إيران وإسرائيل في خضم حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول. فمنذ الهجوم الإسرائيلي الغاشم على القنصلية الإيرانية في دمشق في شهر أبريل/ نيسان الماضي، أظهرت إيران قدراً كبيراً من التردد في التعبير عن ردع قوي وفعال، وهو الأمر الذي شجع إسرائيل على الاستمرار في تصعيد المواجهة بتبجح، وذلك من خلال تنفيذ عمليات اغتيال طالت شخصيات بارزة، مثل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في قلب طهران في نهاية شهر يوليو/ تموز المنصرم، ثم تصعيد وتيرة الحرب ضد حزب الله من خلال تصفية فؤاد شُكر، أحد القادة الميدانيين الكبار، وصولاً إلى اغتيال الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، في الأسبوع الفائت، فضلاً عن توسيع نطاق العمليات الحربية لتشمل الأراضي اللبنانية.

إن النجاح الذي حققته إسرائيل في فرض إيقاعها الخاص على مسار الحرب خلال الأسابيع الأخيرة، وتكبيد حزب الله خسائر فادحة، قد أدى إلى تعقيد الأزمة الإستراتيجية التي تواجهها إيران بشكل مضاعف. فقد باتت تكلفة الاستمرار في إظهار التردد باهظة بالنسبة لإيران، وكذلك بالنسبة لحليفها اللبناني، حزب الله. فمن جهة، لم ينجح هذا التردد في ردع إسرائيل عن مواصلة تصعيد وتيرة الحرب، ومن جهة أخرى، فقد أدى إلى تعميق حالة الانكشاف الإستراتيجي التي يواجهها حزب الله.

وفي ضوء هذه التطورات المتسارعة، لم يتبق أمام طهران خيار آخر سوى التخلي عن هذا التردد الذي طال أمده، وذلك بشن هجوم صاروخي مباشر على إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي. ومع ذلك، فإن هذا الهجوم لا يزال ينسجم مع الإستراتيجية الرئيسية التي تتبناها إيران، والتي تركز في جوهرها على ردع أي انزلاق نحو حرب إقليمية شاملة. وحقيقة أن الهجوم الصاروخي الأول الذي شنته إيران في شهر أبريل/ نيسان الماضي لم يتمكن من إظهار الردع الكافي أمام إسرائيل، فإن الهجوم الجديد جاء بصورة مغايرة تماماً من حيث الشكل والمضمون.

من حيث الشكل، تعمدت إيران أن يكون الهجوم الجديد أوسع نطاقاً بكثير من هجوم شهر أبريل/نيسان، وأن يُحدث أضراراً ملموسة وواضحة للعيان، على عكس الهجوم الأول الذي بدا رمزياً إلى حد كبير. أما من حيث المضمون، فإن تزامن الهجوم الجديد مع تصاعد وتيرة الحرب على الجبهة الأمامية، يهدف بصورة أساسية إلى تحذير إسرائيل من أن مواصلة اندفاعتها الطائشة ضد حزب الله ستؤدي حتماً إلى نشوب حرب إقليمية واسعة النطاق.

لا تزال إيران تُظهر رغبتها الصريحة في تجنب التورط المباشر في هذه الحرب. وهذا أمر منطقي ومفهوم؛ لأن مثل هذا التورط سيجلب معه تكاليف باهظة على طهران نفسها، وقد يُشكل تهديداً وجودياً لنظام الحكم فيها. إلا أن المخاطر الجسيمة التي يواجهها حزب الله في الوقت الراهن تجعل الفوائد المتوقعة من تجنب التورط المباشر في الحرب أقل أهمية بالنسبة لإيران من العواقب الوخيمة المترتبة على الانخراط فيها إذا ما أصبح هذا الأمر واقعاً ملموساً.

فحزب الله ليس مجرد حليف لبناني لإيران أو وكيل إقليمي قوي لها فحسب، بل هو جزء لا يتجزأ من العقيدة الدفاعية الإيرانية. وأي تهديد وجودي يتعرض له هذا الحزب سيؤدي حتماً إلى إضعاف هذه العقيدة، وإلى تقويض قوة وكيل يُمثل بحكم موقعه الجغرافي خط دفاع إيراني متقدم على الجبهة المواجهة لإسرائيل. علاوة على ذلك، فإن أي نجاح إسرائيلي في إضعاف قوة حزب الله سيُحفز تل أبيب في المدى المنظور على تصعيد عملياتها العسكرية الموجهة ضد الوجود الإيراني في سوريا، وذلك في إطار إستراتيجيتها الرامية إلى إضعاف اعتماد إيران على نفوذها الإقليمي، وعلى شبكة حلفائها المنتشرين في المنطقة كجزء أساسي من عقيدتها الدفاعية.

لقد أظهرت عقيدة "الصبر الإستراتيجي" التي انتهجتها إيران منذ بداية حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول نقاط ضعف جوهرية؛ وذلك لجهة أنها لم تُحقق الفوائد المرجوة منها على صعيد تجنب تعميق تورطها بالوكالة في هذه الحرب، وكذلك تجنب تعميق التورط المباشر لحزب الله فيها.

كما أن عقيدة "التراجع التكتيكي" التي أعلنها المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي عقب اغتيال هنية في طهران، قد أتت بنتائج عكسية تماماً؛ لأنها عززت المؤشرات الدالة على الضعف الإيراني، وكرست الاعتقاد لدى إسرائيل بأن تكاليف تصعيد الحرب ضد حزب الله ستبقى منخفضة نسبياً. واليوم، يبدو أن إيران تتجه نحو تبني عقيدة جديدة تمزج ببراعة بين "الصبر الإستراتيجي" و"الاستعراض الإضافي للقوة"؛ بهدف تأكيد الردع الذي يمنع نشوب حرب إقليمية شاملة، بالتوازي مع رفع مستوى المخاطر المترتبة عليها؛ وذلك لتحذير كل من تل أبيب وواشنطن من العواقب الوخيمة للتمادي في إضعاف حزب الله.

مع ذلك، هناك حقيقتان جلّيتان سيتعين على إيران التعامل معهما منذ الآن فصاعداً وبشكل أكثر جدية من أي وقت مضى خلال هذه الحرب. الحقيقة الأولى هي أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد أصبح أكثر جرأة واندفاعاً في تصعيد وتيرة الحرب، وذلك لاعتبارات متعددة ومتباينة؛ أهمها على الإطلاق هو القلق الإيراني المتزايد من التورط المباشر فيها. أما الحقيقة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة، التي لعبت دوراً حيوياً في الحد من مخاطر نشوب حرب إقليمية منذ شهر أبريل/ نيسان الماضي، لم تعد قادرة على الاستمرار في لعب هذا الدور، إما لأنها تعتقد جازمة بأن إيران لن تتورط في الحرب بأي حال من الأحوال، أو لأنها لم تعد تمتلك القدرة الكافية للتأثير في سلوك نتنياهو خلال هذه الحرب، أو ربما لكلا الأمرين معاً. وفي المحصلة النهائية، فإن هذا الوضع الراهن يفرض المزيد من المخاطر الجسيمة على كل من إيران وحزب الله.

في حين أن طهران قد صممت إستراتيجيتها في هذه الحرب منذ البداية بهدف الحد من التكاليف المترتبة عليها وعلى حليفها حزب الله، فإن نتنياهو لا يُدير هذه الحرب من منظور الحد من التكاليف واستعادة الردع الذي كان سائداً قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل من منظور الفرص الثمينة التي أوجدتها إسرائيل لنفسها من أجل إعادة تشكيل التهديدات المحيطة بها، سواء من جانب حماس في قطاع غزة، أو من جانب حزب الله في لبنان، فضلاً عن إعادة صياغة شكل التهديد الإيراني من خلال إضعاف العقيدة الدفاعية الإيرانية، وهذا ما قلل بالفعل من تأثير رسائل الردع الإيرانية، وعظم في المقابل من تأثير الاندفاعة الإسرائيلية المتهورة في هذه الحرب.

ومن غير المرجح على الإطلاق أن يتمكن الهجوم الإيراني الذي استهدف إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي من تحقيق الهدف المنشود المتمثل في إظهار الردع أو الضغط على الإستراتيجية الإسرائيلية الجديدة في لبنان. وقد تصبح الخيارات التي سعت إليها إيران جاهدة لتجنبها منذ بداية الحرب أمراً محتوماً لا مفر منه في نهاية المطاف. لقد وعد نتنياهو في بداية هذه الحرب بتغيير ملامح منطقة الشرق الأوسط برمتها. وأي تأخير إضافي من جانب إيران في التكيف مع الأهداف الحقيقية لإسرائيل في هذه الحرب، سيرفع من التكاليف الباهظة التي ستتكبدها في نهاية المطاف، سواء على الصعيدين الداخلي والإقليمي، وكذلك على حلفائها ودورها الإقليمي المعهود.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة